الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

العقلانية العلمية Rationalité scientifiques

ذ.الزاهيد مصطفى
تقديم خاص للمحور
يحيل مفهوم العقلانية العلمية على شكل جديد من العقلانية تطور في ظل الأزمات التي مست العلوم وأسسها الكلاسيكية الحديثة، فرغم ارتباط ظهور العقل وميلاده بالشك الديكارتي غير أن تقدم العلوم وتعرضها لأزمات داخلية خلال القرن التاسع عشر أديا إلى نشوء عقلانية جديدة مرنة ومخالفة لتحجر العقلانية الكلاسيكية، إذ لم يعد العقل جوهرا ثابتا أو بنية قبلية متعالية ومطلقة بل أصبح ينظر إليه بوصفه أداة لإنتاج المعرفة تنمو وتتطور من خلال عملية إنتاج المعرفة نفسها، بحيث ينفتح العقل ويوسع تصوراته ومبادئه لاستيعاب وقائع جديدة لم يكن يعمل عليها من قبل، مثل النقائض الرياضية واللاحتمية الفزيائية
والصدفة والاحتمالات، وقد استخلص باشلار نتائج هذا التطور بالنسبة للعقلانية العلمية حين قال "ينبغي إعادة العقل إلى الأزمة، وإثبات أن وظيفة العقل هي إثارة الأزمات وأن عقل المناظرة"السجالي" الذي اختصه كانط بمنزله ثانوية، لايمكن أن يمضي في ترك العقل المعماري ينعم في تأملاته"، لقد كانت العقلانية  العلمية هي ثورة على العقلانية الدينية للقرون الوسطى، وقد قيست قيمتها بالنتائج التقنية التي أدت إلى تثوير الواقع والتأثير فيه  وهو ما يدفعنا للتساؤل:حول : ما هي خصائص العقلانية العلمية؟ وما هي أسسها و مرتكزاتها؟ هل هي عقلانية نسبية أم عقلانية مطلقة؟هل الإنتماء إلى العقلانية العلمية معناه الإيمان بأن التجريب العلمي هو المصدر الوحيد لكل معرفة علمية أم معناه بأن العقل هو مصدر هذه المعرفة؟ماهو دور كل من العقل والتجربة في إنتاج المعرفة العلمية؟وما الفرق بين العقلانية الفلسفية والعقلانية العلمية؟.
ارتبط مفهوم العقلانية بالشك الديكارتي  والنقد الكانطي اللذان يعتبران من مؤسسي الإتجاه العقلاني الذي نصنف ضمنه كل من مالبرانش واسبينوزا وليبنز، وما يجمع هؤلاء هو إيمانهم المطلق بالعقل واعتبارهم إياه المصدر الوحيد لكل معرفة علمية حقيقية، فديكارت عاش مرحلة عرفت إنهيارا تاما للعلم الأرسطي الذي كان يستند بالأساس على معطيات الحواس وعلى الثقة فيما تقدمه من انطباعات وأحاسيس، هذا الإنهيار الذي بدأ مع كوبرنيك وتيكوبراهي.فقد تصور كل من كانط وديكارت العقل باعتباره ثابتا منغلقا يقصي من ذاته ومن الواقع كل ماهو ليس عقلي، وكل ما ليس يقينيا، لقد تصوروا العقل باعتباره جوهرا أو بنية متعالية منتجة للمعرفة، وانطلاقا من مجموعة من المبادئ التي اعتبرت خالدة ومتأصلة فيه وهي: /مبدأ الهوية  ومبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع ومبدأ السبب الكافي، فمع أن الواقع يبدوا متغيرا ومتحولا فإن العقل يعمل بمبدأ الهوية الذي يقضي أن الشيء يكون هو هو دائما مطابقا لذاته، فالطاولة هي طاولة وليست جملا، والعدد الفردي فردي وليس زوجيا و أ هي أ وليس ب والوجود هو وجود وليس عدما، كما يعمل العقل بمبدأ عدم التناقض الذي يقضي بأن النقيضين لا يجتمعان وأن القضية ونقيضها لا يكونان معا صادقتين، بل إن كانت إحداهما صادقة كانت الأخرى كاذبة بالضرورة ومن هنا ينبثق مبدأ الثالث المرفوع، وهو يعني أنه لاوسط بين الصدق والكذب فإما أن تكون القضية صادقة أو كاذبة، ولا يمكن أن تكون لا صادقة ولا كاذبة في آن واحد ومن جهة واحدة، ويقتضي مبدأ السبب الكافي الذي صاغه ليبنز بأنه لا يمكن لواقعة ن تكون موجودة ولاي منطوق ان يكون صادقا دون سبب كاف يبرر لماذا يكونان على هذا السبب وليس على نحو اخر، وعلى هذا الاساس
 أن تكون موجودة ولا لأي منطوق أن يكون صادقا دون سبب كاف يبرر لماذا يكونان على هذا النحو وليس على نحو آخر" وعلى هذا الأساس تصورت العقلانية الحديثة مصدر المعرفة واختزلته في العقل باعتباره الأداة و الجوهر القادر على إيصالنا لليقين والحقيقة، أما التجربة والحواس فهي خدّاعة ولا يمكن الوثوق بها لأنها سبق وخدعتنا حينما بينت لنا أن الشمس هي التي تدور حول الأرض بينما الحقيقة عكس ذلك، إن العقل عند ديكارت وعند العقلانيين يكفي نفسه بنفسه ولا يحتاج لأي شيء خارجي عنه لكي ينتج العلم ويصل إلى اليقين الخالص، فهو مزود بشكل قبلي بمبادئ ومعارف  سماها الأفكار الفطرية أو المقولات القبلية وهي كافية للوصول إلى حقيقة كل شيء.
انتقال إلى المناقشة : مواقف تختلف
في مقابل هذه العقلانية العلمية التي تجعل من العقل المصدر الوحيد والأوحد لكل معرفة يقينية ممكنة، تبلور في أوروبا وخاصة في إنجلترا عقلانية علمية أخرى تجعل من التجربة المصدر الوحيد والأوحد لكل معرفة، ومن أبرز ممثليها جون لوك ودافيد هيوم، فعلى عكس ديكارت وأتباعه، اعتبر جون لوكالعقل الإنساني بمثابة صفحة بيضاء، لا توجد فيه أية أفكار أو مفاهيم قبل احتكاكه بالتجربة، فأصل المعرفة العلمية وأداتها الوحيدة في رأي جون لوك هي الحواس ولاشيء يوجد في العقل إلا وسبق وجوده في الحس، ومن أجل توضيح هذا الأمر قام لوك بتشريح العقل الإنساني وبفحص دقيق للأفكار القائمة فيه، إن كل فكرة توجد في العقل إلا وكان مصدرها الأول في الحس، ومن هنا فلا وجود للأفكار الفطرية التي تحدث عنها ديكارت، وأن الأفكار الفطرية ليست سوى أحكام مسبقة تولدت لدينا من زمن ماض بفعل مصدر ما، لكن لطول ألفتنا لها ننسى مصدرها فنعتقد أنها فطرية، والمثال الذي يقدمه جون لوك هو فكرة الله التي اعتبرها ديكارت فطرية قبلية، لكن جون لوك سيرد عليه بالقول: لو كانت فكرة الله فطرية لكانت كونية أي توجد عند جميع أفراد الإنسانية بينما هي ليست كذلك، إذ سيلاحظ أن هناك شعوب لا تتوفر على هذه الفكرة(الله) ومن ثم فهذه الفكرة ليست قبلية ولا فطرية بل هي حكم مسبق، وبالتالي فمصدر المعرفة العلمية واليقينية ليس العقل(النظرية) بل الحواس(التجربة).
توسيع المناقشة بالإنفتاح على الإبستمولوجيا المعاصرة
لكن تطور العلوم وتعرضها لأزمات داخلية خلال القرن التاسع عشر أدى إلى ظهور عقلانية علمية جديدة تختلف عن العقلانية الفلسفية التي جسدها ديكارت ومناقضيه من التجريبيين(جون لوك/هيوم) إذ لم يعد العقل المصدر الوحيد للمعرفة العلمية أو التجربة  التلقائية والعفوية، بل حتى التجريب باعتباره مسائلة منهجية للظواهر المدروسة لم يعد كافيا لإنتاج معرفة علمية ويقينية، وفي هذا الصدد نجد هانز رايشنباخ الذي ميز بين العقلانية العلمية والعقلانية الفلسفية، فرغم أنهما يؤكدان على دور العقل، فهما لا يتفقان حول معنى العقل ذاته، فالعقل العلمي عقل رياضي وحسابي يستخدم آلياته الخاصة للوصول إلى اليقين، فالعقلانية العلمية عقلانية ملاحظة ومجربة، لكنها في الرياضيات عقلانية متعالية على الملاحظة والتجربة، حيث تستخدم آليات خاصة في إثبات حقيقة علمية ما، وهنا تصبح التجربة تابعة للعقل(النظرية)، فكلما وقع خلل في نتائجها إلا ووجب على العلماء الإتجاه نحو تعديل التجربة وإعادة النظر في الواقع العلمي، وفي هذا الصدد يقول هانز رايشنباخفي كتابه "نشأة الفلسفة العلمية"عندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة".إن التجربة هي المنطلق لأي معرفة علمية لكن الرياضيات وحدها قادرة على إنتاج نوع خاص من الحقيقة دون الحاجة إلى الواقع/التجربة.
إذا كان أحد أقطاب الوضعية المنطقية التي حاولت منطقة الفلسفة وتخليصها من الميتافزيقا، فإن ألبرت اينشتاين في كتابه "كيف أرى العالم" يعطي القيمة القصوى للعقل على حساب التجربة، فالتحولات الجذرية التي طالت الفيزياء في بداية القرن العشرين أدى إلى ميلاد عقلانية جديدة تؤمن أن حل مشكلات الفيزياء النظرية يقتضي الاعتماد على العقل الرياضي المحض والعمل على إرغام التجربة على موافقته، لذلك تم استبدال المنهج التجريبي بالمنهج الأكسيومي والذي يقوم على الإنسجام المنطقي الداخلي للنظرية لا على التطابق مع التجربة، فلا يمكن القول حسب إنشتاين أن النظرية العلمية بشكل عام والفيزيائية بشكل خاص تنتج المعرفة العلمية بالإستناد على التجربة بشكل صرف، بل يدخل في تكون هذه المعرفة التي تنتجها العقلانية العلمية الجانب الصوري الخالص، فالتطور الذي عرفته الرياضيات أدى إلى تطور في مفهوم العقل ذاته، فلم تعد غاية العلم هي تجميع الظواهر المتجانسة وتفسيرها وإنما أصبح هدفه هو ترجمة لغة التجربة إلى لغة رياضية، فتتحول الوقائع التجريبية إلى أرقام ورموز بأبسط ما يمكن من المبادئ والمفاهيم العقلية، لكن هذا لا يعني أن العلم أصبح عقليا تأمليا خالصا، ولا النظرية أصبحت صورة مجردة كلية ومنفصلة عن الواقع، بل هي على العكس من ذلك تعكس الواقع الذي تدرسه وتحدد العلاقات القائمة بين ظواهره وتصوغها صياغة رمزية مجردة، وفي هذا الصدد يقول إنشتاين"إنني على يقين أن البناء الرياضي الخالص،يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تسمح بفهم ظواهر الطبيعة.ويمكن للتجربة،طبعا أن توجهنا في اختيار المفاهيم الرياضية التي توظفها، لكن التجربة ليست هي المنبع الذي تصدر عنه، إن المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي".
التركيب
إذا كانت العقلانية الكلاسيكية منذ أرسطو إلى ديكارت  تؤكد على دور العقل في تأسيس العلم نظرا لكونه يتصف بالشمولية و الإطلاقية ويحمل مبادئ تأسيس هذه المعرفة في ذاته فإن الإتجاه التجريبي أنكر دور العقل في إنتاج المعرفة العلمية وأعطى القيمة للتجربة والحواس في بناء هذه المعرفة وهو ما انتقدته فلسفة العلم المعاصرة والعقلانية النقدية مع كانط، فرايشنباخ مثلا مايز بين العقلانية الفلسفية والعقلانية العلمية التي تنظر للعقل باعتباره أداة مرنة ومنفتحة على التجربة بينما اينشتاين حافظ على دور التجربة في بناء المعرفة العلمية لكنه أعطى القيمة القصوى للإبداع والعقل في بناء المعرفة العلمية واليقينية، وفي هذا الصدد سيعمل الإبستمولوجي المعاصر غاستون باشلار على توجيه نقده لكل هذه الإتجاهات مؤكدا على أن المعرفة العلمية هي نتاج لحوار دائم ومستمر وجدلي بين العقل والتجربة/ بين النظرية والواقع، فالمعرفة العلمية هي إنتاج لذات عارفة SUJETتضع بينها وبين موضوع المعرفة L’objet مسافة تتخلص فيها من كل الأحكام المسبقة التي ستشكل عائقا إبستمولوجيا (معرفيا) un obstacle épistémologique فالعقلانية العلمية ليست عقلانية فلسفية تأملية، بل هي عقلانية مرنة تشتغل انطلاقا من نماذج نظرية تبنيها بشكل دقيق جدا من أجل إخضاع موضوع معرفتها لتجريب العلمي، فالثورات العلمية المعاصرة ممثلة في قيام الهندسات اللاأقليدية وميكانيكا الكوانتا جعلت العلم يراجع مبادئه وهو ما فرض علينا حسب باشلار أن نعيد مراجعة تصورنا للعقل وللنظرية ذاتها، فلم يعد العقل كما تصورته الفلسفات المثالية ثابتا ومنغلقا بل أصبح عقلا منفتحا وتاريخيا يتطور بدوره من خلال المعارف التي ينتجها وفي هذا الصدد يقول باشلار: " العقل لا ينتج العلم فحسب بل يتعلم من العلم أيضا"، كما غيرت هذه التحولات من تصورنا للتجربة وللواقع فلم تعد التجربة معطاة، بل مصطنعة خاصة في الميكروفزياء، فالفيلسوف المثالي أو التقليدي كان يقصد الواقع التلقائي والمعطى لكن الواقع في العلم المعاصر هو واقع يتدخل فيه المنهج الذي يضعه العالم نفسه، إنه واقع مبنى.
وهكذا يبدوا تحليلنا لمفهوم العقلانية العلمية من أجل الكشف عن بنيتها قد وضعنا أمام مجموعة من التقابلات، فإذا كانت الفلسفة المثالية قد جعلت العقل مصدرا للمعرفة  اليقينية، فإن التجريبية أعطت القيمة للتجربة وللحواس، لكن العلم المعاصر غير من نظرتنا للعقل وللتجربة فلم يعد العقل كاملا وفطريا مزودا بمبادئ توصلنا لليقين ونتساوى في امتلاكه، كما لم تعد التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية كما رأينا مع رايشنباخ واينشتاين لكن هذا لا يعني إقصائها التام، فقد أعطيت القيمة للإبداع والخيال في إنتاج المعرفة العلمية التي لن تكون في نهاية المطاف مع باشلار سوى حصيلة حوار مستمر بين النظرية والتجربة /العقل والواقع. وفي هذا الصدد يقول "لا يمكن تأسيس العلوم الفيزيائية دون الدخول في حوار فلسفي بين العالم العقلاني والعالم التجريبي"، لكن السؤال الأهم كيف نتأكد من صدق نظرية ما؟ وما المعيار الذي نتمكن من خلاله من الحكم على أن نظرية ما نظرية علمية وتستحق هذا التصنيف؟.


النظرية / التجربة والتجريب

ذ.الزاهيد مصطفى
تقديم عام
المحور الأول :التجربة والتجريبl’expérience et l’expérimentation

يتفق العديد من فلاسفة العلم والعلماء على القول بأن نظرية ما لا تصبح علمية إلا إذا أثبتتها التجربة، فالاتفاق مع التجربة كما يقول بيير دوهايمP’DUHEM  يشكل بالنسبة للنظرية المعيار الوحيد لحقيقتها، لكن ما المقصود بالتجربة وفق هذا القول؟هل المقصود التجربة العفوية والتلقائية التي على العالم ملاحظتها بدقة والإصغاء إليها بأمانة وبدون أية أطر نظرية، أم أن المقصود بها هو التجربة المصطنعة التي تتم في ظروف ووفق خطوات محددة مسبقا بالنظرية نفسها التي نسعى للتأكد من صدقها؟هل العالم حينما يقوم بالتجربة يكون بمثابة الآلة التي تسجل بأمانة ما تراه وتسمعه في الواقع  في استقلال عن الذاتية أم معناه أن العالم هو الذي يشيد ويبني نموذجا تجريبيا وفق خطوات يحددها هو بنفسه؟بعبارة أوجز هل ما يؤكد علمية نظرية ما هو التجربة باعتبارها إنصات وإصغاء وملاحظة للواقع أم هو التجريب باعتباره مساءلة واستنطاق منهجي لهذا الواقع؟ (ارجع للدلالات حتى تميز جيدا بين التجربة والتجريب والنظرية).

إن الفكر الفلسفي  والعلمي القديم لم يكن يعرف إلا شكلا واحدا من التجربة وهي التجربة الحسية الخام المتمثلة في مجموع معطيات العالم التي تصدم حواس الإنسان وتولّد لديه انطباعات مختلفة. وقد انقسم هؤلاء الفلاسفة بخصوص أهمية التجربة في بناء المعرفة وفهم حقيقة العالم  إلى اتجاهين أحدهما يمثله أفلاطون والآخر يمثله أرسطو.
فبالنسبة لأفلاطون ليس للتجربة الحسية أي دور أو أهمية في بناء المعرفة العلمية الحقيقية واليقينية حول موجودات العالم، بل على العكس من ذلك المعرفة الحسية تمثل عائقا على الفيلسوف-العالم التخلص منه إن هو أراد بلوغ الحقيقة واليقين وتجاوز الآراء والظنونDOXA،فالتجربة الحسية كما يصورها أفلاطون في أسطورة الكهف  هي بمثابة قيود وأغلال تعيق وتحول دون إدراك المعقولات الثابتة، والحقائق المفارقة الموجودة في عالم المثل الذي توجد فيه المعرفة اليقينية و الثابتة EIDOS  فما يوجد في التجربة الحسية والعالم المحسوس مجرد نسخ وظنون متغيرة، لذلك فبلوغ المعرفة اليقينية وبلوغ عالم المثل، لا يتطلب وساطة التجربة الحسية والحواس بل يتطلب التحرر منها.
عكس هذا التصور يدافع أرسطو على دور التجربة في معرفة العالم ويعتبر أنها تمثل نقطة انطلاق لا يمكن لأي معرفة علمية أن تتجاوزها، فحقيقة الموجودات المادية وإن كانت لا تكمن في المظاهر والأعراض التي ندركها بواسطة حواسنا، فهي لا توجد منفصلة عنها ومفارقة لها، وإنما كامنة خلفها ومحايثة لها، وتبعا لذلك فإن استقراء وملاحظة أعراض الموجودات يمثل في رأي أرسطو الخطوة الأولى والضرورية من أجل بناء أي معرفة حقيقة حول العالم وحول الموجودات التي يحتويها ويتألف منها، فقبل الانتقال إلى مرحلة التفسير أي مرحلة البحث عن العلل الأسباب المحددة لأي ظاهرة، يجب المرور بالضرورة بمرحلة الوصف، أي مرحلة الملاحظة الدقيقة لعناصرها و أجزائها وللعلاقات القائمة فيما بينها، وهو ما طبقه أرسطو نفسه في كل أبحاثه الطبيعية، ففي بحثه حول الحركة ومختلف العناصر المؤلفة لها، يبين أنها أي الحركة هي فعل في طور الإنجاز، وأنها ضد السكون، وأنها تحتاج لمحرك ومتحرك ومسافة، فبعد هذا فقط ينتقل أرسطو مباشرة للحديث" عن العلل والأسباب المحركة أي إلى تفسير ظاهرة الحركة بإرجاعها  إلى علل وأسباب، وهو دليل على أن التجربة الحسية عند أرسطو هي نقطة انطلاق العلم الفيزيائي مادام موضوع هذا العلم عنده هو الحركة نفسها أو الموجودات من حيث هي متحركة كما يقول أرسطو.
الانتقال إلى  المناقشة
في مقابل هذه التصورات التي كانت تعطي القيمة للتجربة بمعناها الحسي الخام والتلقائي سيعرف الفكر العلمي مند مطلع القرن 17 شكل آخر من التجربة هو التجربة المبنية والمشيدة والموجهة بمقتضيات نظرية محددة سلفا، والتي وحدها ستصبح تسمى بالتجربة العلمية، فأمام الانتقادات والمراجعات التي تعرض لها العلم الأرسطي مند بيكون وتيكوبراهي وغاليلي وغيرهم، كان لزاما على العلماء التفكير في المنهج الذي يمكنهم من بلوغ المعرفة والحقيقة وهو ما أفضى إلى ظهور ما يعرف بالمنهج التجريبي القائم على الملاحظة الموجهة والمبنية، فالعالم بدءا من القرن 17 لم يعد يلاحظ(التجربة/الواقع) أولا ثم يفكر ثانيا (النظرية/العقل) كما كان الأمر مع أرسطو، وإنما العكس أصبح العالم يحدد لنفسه مشكلة وفي ضوئها يتجه إلى الواقع لملاحظته، حيث لا يلاحظ أي شيء وكيفما اتفق، وإنما يلاحظ فقط ما يفيده في الجواب عن ذلك المشكل الذي بناه بفكره، فمثلا ظل العلماء على مر الزمان يراقبون السماء ويلاحظون ما يجري فيها، لكن وحده تكوبراهي من لاحظ تكون نجم جديد في السماء وبأن بعض المذنبات تصعد حتى تقترب من الشمس ثم تعود لتقترب من الأرض، وسبب ذلك ليس تطور الأدوات التي كان يستخدمها وإنما كون ملاحظاته كانت موجهة بمشكلات محددة وهي : هل عالم مافوق القمر يطاله الكون والفساد أم انه كما اعتقد أرسطو ثابت لا تغير فيه؟وهل هناك فعلا أفلاك حاملة للكواكب كما اعتقد أرسطو وبطليموس؟ فوجود مثل هذه التساؤلات في ذهن العالم هو الذي جعله يدرك بملاحظته للسماء بأن المذنبات تخترق في مسارها السماء، وبأن في عالم ما فوق القمر نجوم جديدة تتكون وأخرى قديمة تختفي، وما ينطبق على عالم مافوق القمر ينطبق على أي عالم آخر، فبدون تساؤلات يحملها العالم في ذهنه وبدون خطة مسبقة توجه الملاحظة لا يمكن لأية ملاحظة أن تكون منتجة وعلمية، أما عن التجربة التي كانت عند أرسطو وغيرها من القدماء فهي تجربة تلقائية وعفوية وحسية .
لكن في بداية القرن 17 كان التجريب عبارة عن جملة من الإجراءات المختبرية المحددة مسبقا أدواتها وخطواتها، إنها عبارة عن عمليات مقصودة ينجزها العالم نفسه بناء على المعطيات النظرية التي يريد فحصها واعتمادا على وسائل وتقنيات هي نفسها نتاج وحصيلة لنظريات معينة سابقة وتبعا لهذا فالتجربة بمفهومها العلمي الحديث هي عبارة عن استنطاق ومسائلة للواقع وليست مجرد إنصات وملاحظة عمياء، إن التجريب العلمي هو إرغام للطبيعة على البوح بأسرارها وعلى الكشف عن ما تخفيه من قوانين و علاقات وليست مجرد مراقبة وتتبع للظواهر الطبيعية، فمثلا كلود برنار أكد في كتابه "مدخل لدراسة الطب التجريبي" على أن معرفة قوانين الطبيعة وبلوغ المعرفة العلمية يقتضي من الباحث ملاحظة الظاهرة بشكل منظم ودقيق، وانطلاقا من ملاحظتها يصوغ مجموعة من الفرضيات التي تظل مجرد احتمالات قد تكون صادقة أو كاذبة ومن أجل التأكد منها يلجأ لاختبارها، وهو ما يتيح له في النهاية القبض على الفرضية الصحيحة التي يؤسس عليها قانونا مفسرا لظاهرة بشكل عام كما وقع في تجربة الأرانب:  
الخطوة الأولى
الملاحظة
لاحظ كلود برنار بول الأرانب الذي كان صاف وحمضي مع  العلم أن المتعارف عليه هو أن بول الأرانب يكون عادة مكدر اللون وغير حمضي لأنها حيوانات عاشبة
الخطوة الثانية
طرح الفرضية
افترض برنار أن هذه الأرانب أخضعت لنظام غدائي يناسب الحيوانات اللاحمة فافترض أنها ربما أخضعت لنظام غدائي يناسب الحيوانات اللاحمة فتحولت بفعل الإمساك الطويل إلى حيوانات تقتات من دمها لتعيش.
الخطوة الثالثة
مرحلة التجريب المنهجي الموجه بأسئلة من طرف العالم برنار/التوجه إلى التجربة
قدم للأرانب طعاما عاشبا وبعد ساعات لاحظ أن بولها أصبح يتخدر وأصبح غير حمضي، ثم أخضعها للإمساك عن الطعام فلاحظ بعد 36 ساعة على أبعد تقدير قد أصبح بولها صافيا وحمضيا وأخضع الخيول لنفس التجربة فاكتشف أن إمساكها عن الطعام يجعلها تنتج حموضة مفاجئة وزيادة في مادة الأوريا (مادة بلورية توجد في بول الحيوانات)
الخطوة الرابعة

صياغة قانون علمي
يخلص برنار إلى قانون علمي  مفسر للظاهرة خلص فيه إلى أن كل الحيوانات التي تتغذى باللحم عند إمساكها عن الطعام، بحيث يصبح بولها شبيها ببول الحيوانات العاشبة.
من هنا يتضح لنا أن هذا المنهج تكمن قيمته في كونه لايدع فرصة للباحث كي يلقي بميولاته وذاتيته على الظواهر التي يدرسها، بل كل خطوات المنهج تكون خاضعة لتنظيم قبلي يضعه وينتجه العالم من أجل تفادي أي معارف تلقائية أو ظنون بل يتم الإحتكام إلى التجربة العلمية المبنية، فما أكدته يعتبر علميا وما فندته يتم التخلي عنه.
إن التجريب العلمي  باعتباره مساءلة منهجية للواقع ساهم في تطور  العلم وتقدمه عكس التجربة العفوية والتلقائية والحسية وهكذا أصبح  العالم كما يقول كانط في كتابه "نقد العقل الخالص": يواجه الطبيعة وهو يحمل مبادئه التي هي وحدها قادرة أن تمنح للظاهر المتطابقة قوانين صارمة، ويحمل من جهة ثانية التجريب الذي تخيل صورته وفقا لهذه المبادئ. إذ عليه أن يواجه الطبيعة لكي يتعلم منها، ولكن ليس بوصفه تلميذا يتقبل كل ما يريده المعلم، بل بوصفه قاضيا يحث الشهود على الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها عليهم". وفي ظل التحولات التي عرفها العلم المعاصر وظهور معطيات جديدة حيث انتقلنا من الماكروفزياء إلى الميكروفزياء مع اكتشاف الجراثيم والباكتيريات الدقيقة واكتشاف الإلكترونات والفتونات التي لا نملك التقنيات والوسائل للكشف عنها، لكن العالم يقر بوجودها لذلك لم يعد التجريب كافيا لتحقق من صحة فرضية ما بل أصبح بإمكان العلماء أن يلجئوا إلى الإعتماد على الخيال للقيام بتجارب ذهنية وفي هذا الصدد يوجه روني طومR.THOM نقدا لاذعا للقائلين بإطلاقية المنهج التجريبي وصلاحيته اللامتنهاية وبإمكانية شموليته لجميع الظواهر كما ذهب إلى ذلك فرانسيس بيكون وهو ما اعتبره روني طوم مجرد وهم لذلك أكد روني طوم على أن التجربة لا تكون علمية إلا إذا كنا قادرين على إعادة صنعها في مكان وزمان آخر ، كما يربط علمية التجربة العلمية بالأهداف النفعية التي تسعى لتحقيقها وفي هذا السياق يؤكد روني طوم على محدودية الواقع في قوله "إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما، ففي جميع الأحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي، هذه القفزة نحو الخيالي هي أساسا عملية ذهنية، أو تجربة ذهنية، ولا يمكن لأي جهاز علمي أن يعوضها".
التــــــركيب
مما سبق يبدوا لنا أن فلسفة العلوم على وعي تام اليوم بالتحولات الكبرى التي يعرفها العلم والتي تطورت معها آليات اشتغاله وإنتاجه لمعارفه العلمية حول الظواهر التي يدرسها فإذا كانت المعارف العلمية على العموم هي نتاج حوار مستمر بين النظرية والتجربة فإن التجربة التي تحدثنا عنها  والتي ساهمت في تطور العلم ليس التجربة الحسية بل التجريب العلمي باعتباره مسائلة منهجية للواقع، فلم يعد العالم يتعامل مع الواقع بعفوية بل انطلاقا من تفكير نظري  فإذا كانت التجربة هي معطى خام قائم بذاته في الواقع وسابق على كل تفكير نظري فان التجريب هو عبارة عن فعل وإنجاز يقوم به العالم نفسه بناءا على معارف يمتلكها سلفا وقد يتدخل فيها الخيال، لأن التطور المعاصر والإكتشافات العلمية المعاصرة للجزيئات الذرية وللإلكترون الذي يحوم حول النواة  وغيره أثبت محدودية المنهج التجريبي وأعاد الإعتبار للتجربة الذهنية التي تقوم على الخيال الخلاق والمبدع كما يقول انشتاين.


النظرية والتجربة: مدخل عام لمجزوءة المعرفة

ذ.الزاهيد مصطفى
تقديم عام
إن العلم لا يفكر في ذاته هكذا قال هيدغر يوما، وهو ما يعني أن الفلسفة تقوم بذلك، إن المبحث الذي يفكر في العلم ضمن الفلسفة يسمى بفلسفة العلوم الإبستمولوجيا l’épistémologie، لقد حاولت الإبستمولوجيا أن تفكر في تاريخ العلم والمعرفة العلمية، وكانت الغاية هي نقد الأسس والمبادئ التي يقوم عليها العلم بل نقد كذلك إدعاءاته (اليقين/الحقيقة المطلقة/...). إن التفكير في تاريخ العلم رغم كونه حديث النشأة إلا أننا نجد تفكيرا في شروط المعرفة العلمية حاضرة لدى الفلاسفة عبر تاريخها، فقد فكر أفلاطون في الأسس التي يمكن أن يقوم عليها العلم الرياضي في اليونان(الدوكسا أو الإيدوس) كما فكر في ذلك أرسطو،
لكن التفكير في الأسس التي يمكن أن يقوم عليها العلم والمعرفة العلمية تتغير من لحظة تاريخية للأخرى فتفكير اليونان مختلف عن تفكير علماء العصر الحديث والمعاصر.فإذا كان بعض الفلاسفة قد أعلوا من قيمة العقل(النظرية )على حساب الواقع (التجربة) فإن البعض جمع ووفق بينهما ورأى أنه لا معرفة علمية بدون تجربة تحاور النظرية. فما النظرية وما التجربة؟ وكيف تنتج المعرفة العلمية؟ وما خصائص العقلانية العلمية ؟وبأي معيار نقيس علمية نظرية ما؟وفي الأخير لماذا نطلب تحصيل المعرفة العلمية؟ إن كانت الحقيقة هي الغاية؟ فما هي الحقيقة ولماذا يطلبها الناس هل لنفعيتها أم لقيمتها ..؟
النظرية والتجربة
* من الدلالات اللغوية إلى الإشكالات الفلسفية
يحيل لفظ النظرية أو النظر في لغة الحياة اليومية على الرأي أو الحكم والقول، فمثلا قد تقول لشخص ما: ما رأيك؟ وما نظرك؟ وهي صيغ نستعملها لتعبير في حياتنا اليومية والغاية منها معرفة رأي شخص ما ونظرته في أمر ما، هنا تكون النظرية في الدلالة العامية مرادفة لتفكير في ما هو عملي، لكن في نفس الآن مقابلة ومتعارضة مع الفعل والتجربة، فالنظر والمعرفة النظرية لدى الحس العام المشترك إذا لم تقترن بالتجربة والعمل فإنها تتخذ معنى قدحيا، فتحيل على غياب الفعالية وعلى الحلم والسذاجة والإنفصال عن الواقع.فالمنظر مجرد حالم.عكس هذا التصور الذي يعطي القيمة للتجربة نجد الفلسفة اليونانية في بداية ظهورها خاصة مع أرسطو وأفلاطون قد أولت الأهمية الكبرى للنظرية فهذا المعلم الأول أرسطو: يقول في كتابه "الميتافيزيقا" الإنسان الذي يهتدي بمعطيات فن(علم) من الفنون أعلى ممن يتبعون التجربة وحدها، فالمهندسون فوق العمال اليدويين، والعلوم النظرية فوق العلوم العملية الخالصة".
من خلال تأملنا في كلا التصورين نلاحظ التعارض البيّن في الموقف من النظرية والتجربة وهو ما يفرض علينا العودة للمعجم لتحديد المفاهيم لغويا وفلسفيا.
* في الدلالة اللغوية :
لفظ النظرية في الفلسفة العربية مشتق من "النظر" أي من فعل الرؤية والملاحظة بالعين، وكلمة  théorieهي كتابة فرنسية لكلمة théoria  الإغريقية المشتقة من فعل théorien  بمعنى نظر ولاحظ ثم تأمل، وفي الدلالة الاصطلاحية و المعجمية تدل النظرية في العربية على ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم، أما في اللغة الفرنسية  تعني النظرية théorie في المعنى الأول "مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة والمنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص، وفي معجم روبير تعني بناءا عقليا منظما ذا طابع فرضي ...تركيبي".
* في الدلالة الفلسفية
يحدد لالاند في معجمه الفلسفي النظرية بأنها إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ وهي تتعارض مع الممارسة أو التجربة بمعناها النفعي المصلحي، كما أن النظرية تتعارض مع الرأي والمعرفة التلقائية والعفوية، لأنها معرفة منهجية ومنظمة، تتوقف من حيث شكلها على القرارات والمواضعات العلمية التي لا تنتمي للحس المشترك وتتقابل النظرية مع المعرفة اليقينية لكون النظرية بناء فرضي، كما تتعارض مع الجزئيات والتفاصيل العلمية لأنها تركيب وبناء منهجي يخضع للصرامة المنطقية، النظرية بشكل دقيق مع فولكيه وبيير دوهييم هي"بناء عقلي يتم بواسطته ربط عدد من القوانين بمبدأ"، يمكن أن تستنتج منه بدقة وصرامة، فالنظرية لا تتألف فقط من أفكار ومفاهيم مجردة بل من قوانين ومبادئ تقوم بربطها على نحو استنتاجي".
* الفرق بين التجربة والتجريب في التعريف المعجمي والفلسفي:
أما التجربة expérience  في تعريفها فإنها تحيل على الواقع المباشر الماثل أمام العين المجردة، وعند لالاند هي المعرفة المباشرة والفورية التي نحرزها عن الوقائع والظواهر من خلال احتكاكنا اليومي معها وهي عكس التجريبexpérimentation   فهو الإستعمال المنهجي للعقل يقوم على إجراء سلسلة أو جملة من الاختبارات أو التجارب من أجل إحداث تأثير في الواقع أو الظاهرة المدرسة  وغايته الكشف عن القوانين والمبادئ  المتحكمة فيها.نت فقط تنأنت
* استنتاجات :
ما نخلص إليه هو أننا لا نهتم في العلم بالنظرية، أي الرؤية الساذجة والبسيطة والعفوية بل بالنظرية باعتبارها بناء عقلي منهجي ومنظم للواقع و للظواهر المدروسة وللقوانين التي تحكمها في علاقة بالتجربة، وهنا لا نتحدث عن التجربة العفوية والتلقائية لأنها في العلم لا تساهم في تطور المعرفة العلمية ولا في إنتاجها بل نتحدث عن التجربة المحدثة وفق منهج علمي يسمى التجريب expérimentation .فإذا كان مفهوم النظرية يحيل على التأمل والتفكير والتنظيم لشتات الواقع في مبادئ وقوانين علمية غايتها تفسير حدوث ووقوع ظاهرة ما في الواقع فإن التجربة تحيل على الممارسة العملية وهو ما يعني أن اللفظين ليسا متعارضين في العمق بل هناك حوار وتكامل بين النظرية والتجربة وفي هذا السياق نطرح جملة الإشكالات: ما دلالة التجربة في الخطاب العلمي؟ وما الفرق بينها وبين مفهوم التجريب؟وما المقصود بالنظرية العلمية في الخطاب العلمي؟و ماهي خطوات وعناصر بنائها؟وماهي المعايير التي من خلال نتأكد من صدق وصلاحية نظرية علمية ما؟هل العقل العلمي مجرد مرآة تعكس معطيات الواقع الحسي/التجربة أم أن مبادئ المعرفة العلمية توجد بشكل قبلي وفطري في العقل؟ وهل العقل لوحده دون الإستناد إلى التجربة قادر على إنتاج معرفة علمية؟ماهو دور الذات ممثلة في العقل والموضوع ممثلا في التجربة في تكوين المعرفة العلمية؟ وهل هذه المعرفة العلمية نهائية ويقينية أم أنها نسبية ومتغيرة؟

الخميس، 27 أكتوبر 2016

العلاقة مع الغير :أفلاطون/أرسطو/كارل شميت

ذ.الزاهيد مصطفى
تقديم خاص للمحور:
لا يمكن اختزال العلاقة مع الغير إلى علاقة معرفة، فهذه العلاقة مركبة ومتعددة الأبعاد في الواقع الفعلي، وكل بعد من هذه الأبعاد تتقاسمه قيمتان متعارضتان: إيجابية وسلبية ( المحبة والكراهية، الاعتراف والإقصاء، الصداقة والعداوة. إن الغاية من التفكير في العلاقة الممكنة مع الغير مرده إلى انهمام الفلاسفة بإشكالية سياسية ترتبط بتنظيم المدينة/الدولة Polis سياسيا وثقافيا وأخلاقيا،
إذ لاحظ الفلاسفة أن القوانين منذ اليونان ليست مثالية وغير قادرة على جعل المجتمع أكثر أمانا وسلاما، تسوده قيم التضامن والتعايش، إذ تعبر نزوعات الأفراد والجماعات في كل حين عن العنف والحرب، وهو ما جعل الفلاسفة يفكرون في الغير وفي التنظير للعلاقة معه على أسس أخلاقية تتجاوز الإكراه القانوني إلى الالتزام الأخلاقي تجاه هذا الغير باعتباره ذاتا وأنا آخر، وليس عدوا دائما أو خصما أو نقيضا مهددا للأنا ومن هنا يمكن التفكير في إشكالية العلاقة مع الغير انطلاقا من جملة التساؤلات الفلسفية : ما طبيعة العلاقة التي تجمع الأنا بالغير؟ هل هي علاقة أساسها المتعة والمنفعة أم علاقة أساسها الفضيلة؟هل نصادق الآخرين لأننا نبحث عن الكمال أم لأننا نحس بالنقص؟هل العلاقة مع الغير غايتها حفظ البقاء والنوع أم غايتها تأسيس مجتمع يسوده التضامن والتسامح وينبذ الحرب والعنف؟

موقف أفلاطون :العلاقة مع الغير أساسها الحب الذي تحس به الأنا تجاه الغير، هذا الحب الموجه نحو الغير غايته تحقيق الكمال وتجاوز نقص الأنا
يدافع أفلاطون في محاورة ليسيسLysis  التي خصها لبحث موضوع الصداقة، على أن الصداقة علاقة محبة متبادلة بين الأنا والغير، أساسها حالة وجودية وسط بين الكمال المطلق والتواصل المطلق، بين الخير الأقصى والشر الأقصى، لأن من يتصف بالكمال والخير المطلقين يكون في حالة اكتفاء ذاتي إلى الغير ومن يتصف بالشر والنقص المطلقين تنتفي فيه الرغبة في طلب الكمال وللخير، لذلك فالصديق هو من يتصف بقدر كاف من الخير والطيبة يدفعه إلى طلب خير أو كمال أسمى، وبقدر من النقص لا يمنعه من ذلك، وكأنه يبحث في الغير عما يكمله.
موقف أرسطو:الصداقة فضيلة ، تمنعنا من النظر للآخر باعتباره مفيدا أو نافعا بل باعتباره صديقا
في نفس السياق يضيف أرسطو أن الصداقة، فضيلة، فهي تمثل قيمة إيجابية وسامية، ضرورية للحياة المشتركة، وهي الرابطة التي يمكن أن تجمع بين الناس، فإذا عمت علاقات الصداقة بينهم داخل المدينة فلن يحتاجوا إلى العدالة والقوانين.
يميز أرسطو بين ثلاثة أصناف من الصداقة: صداقة المنفعة وصداقة المتعة وصداقة الفضيلة.فالصنفان الأولان متغيران يتوقفان على ما هو نافع وممتع، ينتفيان بانتفاء أساسهما، أما الصنف الثالث فهو الذي يستحق اسم الصداقة الحقة. لأنه ينبني على محبة الخير والجمال لذاتهما، وهو فضلا عن ذلك يوفر المتعة والمنفعة، ولكن ليس كغايتين في ذاتهما، بل كنتيجة فقط. يتناول أرسطو الصداقة كقيمة أخلاقية ومدنية، ويركز في تحليله لها على الأشكال الواقعية. الصداقة كتجربة معيشة، بخلاف التصور المثالي للصداقة عند أفلاطون القائم على الحب، والتي تمثل عنده حالة وجودية تتوسط الخير الأقصى والشر الأقصى، ولذلك فإن الصديق هو من يتصف بقدر كاف من الخير يدفعه إلى طلب الخير الأسمى. أما من يتوفر على الكمال والخير المطلقين فهو في حالة اكتفاء ذاتي لا يحتاج فيه إلى الآخر، ومن يتوفر على الشر والنقص المطلقين تنتفي معه إمكانية طلب الخير والكمال. فالعلاقة التي يمكنها أن ترتقي بالمدينة/الدولةPolis  بين الغير والأنا هي العلاقة القائمة على صداقة الفضيلة، لأنها تقوم على محبة الخير والجمال لذاته أولا ثم للأصدقاء ثانيا، لذلك تدوم وتبقى، وفي هذا النوع من الصداقة تتحقق المنفعة والمتعة أيضا، ولكن ليس كغايتين بل كنتيجتين للصداقة، لذلك فإن صداقة الفضيلة نادرة، لكنها تظل ضرورية ومطلبا للحياة المشتركة، ولو أمكن قيام الصداقة الحق، صداقة الفضيلة بين الناس جميعا، لما احتاجوا إلى العدالة والقوانين والدولة.

كارل شميث : التمييز بين الصديق والعدو هو المميز للعلاقة بين الأنا و الغير، الأنا عند شميث جماعية، والغير كذلك ذات جماعي، إنه يتحدث عن دولة في علاقتها بدولة أخرى، كأقصى تمثيل للعلاقة بين الأنا والغير الذي تظل العلاقة معه  محكومة بالعداء أو الصداقة. التي لا يمكنها أن تكون دائمة ولا العداء دائم، بل المصالح هي التي تحدد طبيعة العلاقة.
يناقش كارل شميث الفيلسوف الألماني، في كتابه "اللاهوت السياسي" كل التصورات الفلسفية التي نظرت لإشكالية العلاقة مع الأخر من منظور الصداقة أو الفضيلة، موجها نقدا لاذعا لكل هذه التصورات الليبرالية أو الساذجة التي تريد أن تقصي الحقيقة التي يقوم عليها العيش بالمعية والعلاقات في مستواها الكوسموبولتيكي(الكوني) فانطلاقا من فلسفة شميث"لا يمكن أن يكون لنا أصدقاء حقيقيون حتى يكون لنا أعداء حقيقيون، ولا يمكننا أن نحب أنفسنا ما لم نكره غيرنا، هذه هي الحقائق القديمة التي نعيد اكتشافها اليوم بأسى كبير بعد قرن و يزيد من الرياء العاطفي"، عندما ننظر للعدو في تصور كارل شميث نجده لا يقصد به الخصم أو المنافس الإقتصادي أو الأخلاقي بل العدو هو ذلك الذي غايته إحداث موت فزيائي للأنا في المعركة أو الحرب أي الوضع الإنساني الأكثر مجازفة.وبالتالي فالعلاقة مع الغير(الذات الجماعية المختلفة) مع الأنا (الذات الجماعية) محكومة بالعداء أو الصداقة المبنية على المصالح المشتركة والتي تتمثل في حفظ الذات وبقائها ضد أي تهديد خارجي.

خلاصات عامة ّ وانفتاح على مفهوم التاريخ:

من خلال مناقشتنا لإشكالية الغير في مختلف مستوياتها، تبين لنا أن إشكالية الغير هي قضية وجودية لأنها مرتبطة بالحياة الإنسانية التي لن يستقيم تنظيمها على مستوى الدولة إلا بتدبير العلاقة مع الغير في مختلف تجلياتها وفحص هذه الإشكالية كانت غايته إيجاد الوسائل والآليات لوضع تصورات تربوية غايتها تنشئة الأفراد داخل المدينة/الدولةPolis  على أساس الوعي بالعلاقة مع الغير في مستواها الميكرواجتماعي(علاقة أنا فردية بأنا فردية أخرى مختلفة) إلى المستوى الماكرواجتماعي الذي تبدوا فيه العلاقة مع الغير وتدبيرها ضرورية للدولة، فإذا كان البعض ينظر للغير باعتباره عائقا أو مهددا للأنا، فالبعض نظر إليه باعتباره ضروريا، لكن العلاقة معه لا تستقيم بدون معرفة مسبقة، هذه المعرفة المسبقة التي تطرح علينا مجموعة من العوائق، فالمعرفة تؤدي إلى الموضعة والتشييء وهي مفيدة في الطبيعة والعلم لكن تطبيقها على الإنسان لا يؤدي إلى نتيجة لأن معرفة الإنسان تظل نسبية ومتغيرة، لذلك نجد أن الفلاسفة يركزون على ضرورة الابتعاد على التخمين وسوء النية والقوالب الجاهزة التي تنشئها الأنا وتطالب الغير بالتطابق معها، فالإختلاف في الفلسفة المعاصرة ضروري لإغناء الوجود الإنساني.
إن مجزوءة الوضع البشري جعلتنا بشكل عام نقف على الشروط التي يوجد فيها هذا الكائن الحي الذي يقذف به إلى العالم ومن خلال مختلف المفاهيم التي تطرقنا إليها من الكائن الحي البيولوجي إلى  الشخص إلى الغير يبدوا لنا أن الإنسان حينما ينظم علاقته مع الغير ينخرط معهم في أعمال وإنتاجات إبداعية تجعلهم يصنعون بوعي أو بدون وعي تاريخهم الخاص، هذا التاريخ الذي يتداخل فيه الإبداع الفردي بالإبداع الجماعي، فيصير الإنسان بهذا كائنا تاريخيا، يتجاوز الحسي ليساهم في التأثير والتأثر بمجموعة من الأحداث والوقائع، وليست الأساطير والقصص والروايات التي تصلنا عن الماضي الإنساني إلا دليل واضح على أن هذا الإنسان يأبى  الإجتثاث ويقاوم الموت لأنه يترك دائما أثرا، يبهرنا به، فليست المايا أو الأنكا أو البابليين والأشوريين والفراعنة بقايا ميتة بل هي وقائع تاريخية لدنيا حولها معرفة نتداولها ونتناقلها بيننا في المدارس والجامعات وكل المؤسسات العلمية، وهو ما يجعل إشكالية التاريخ تطرح نفسها أمام الفحص الفلسفي إنطلاقا من: ما التاريخ؟ وما قيمته وأهميته بالنسبة لحاضر الإنسان؟ وماهي طبيعة المعرفة التاريخية؟ وأي منطق يحكم التاريخ؟ وما هو دور الإنسان في هذه الأحداث والوقائع التاريخية؟

معرفة الغير:إدموند هوسرل/ماكس شيلر/جان بول سارتر/غاستون بيرجي

ذ.الزاهيد مصطفى
             I.               معرفة الغير:
ü تقديم خاص بالمحور:
إن التأسيس للإجتماع البشري وظهور الدولة يقتضي تنظيم العلاقة بين جميع الأغيار، لكن التفكير في أشكال العلاقات الممكنة مع الغير لا يمكن أن نفكر فيه فلسفيا إلا من خلال إشكال سابق عليه وهو التفكير في إمكانية معرفته -فنحن لا يمكننا الإرتباط مع  أحد أو نسج علاقات معه دون معرفة سابقة به- هذه المعرفة التي تطرح أمامنا العديد من العوائق الإبستمولوجية،
فنحن ذهبنا لزمن معتقدين أن فعل المعرفة مرتبط بالعلم والطبيعة لأنه في الواقع وما تكشف عنه الممارسة المعرفية هو أن فعل المعرفة يقتضي الإستناد إلى العديد من الخطوات التي تؤسس لهذه المعرفة وخاصة العلمية منها ك:(الملاحظة/الموضعة/التشييء/العزل/التجريب) وهي الخطوات التي لا يمكن أن نخضع إليها الغير، وحتى إن ادعينا إمكانية ذلك فلن نعرف سوى جسمه وجسده أما عالمه الداخلي فيظل عسيرا على المعرفة وصعبا على الاختراق، من هنا تصدر إشكالية معرفة الغير التي نجملها في :
ألا يؤدي فعل المعرفة باعتباره ارتبط تاريخيا بالعلم والطبيعية إلى تشييء وموضعة الإنسان وسلبه كل خصائصه الصورية (الوعي/الحرية/الاستقلالية/المسؤولية/) ؟ وهل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟ وإذا كانت ممكنة فهل هي مطلقة ونهائية وقابلة لتعميم أم أنها مجرد ظنون وأوهام وتخمينات قد يساهم هذا الغير في حد ذاته في خلقها لدي حينما يقدم نفسه أمامي بصورة معينة؟
موقف إدموند هوسرل: معرفة الغير ممكنة عن طريق التذاوت intersubjectivité
يرى هوسرل أن معرفة الغير ممكنة عن طريق ما يسميه بالتذاوت inter-subjectivité فالذات تدرك الغير في العالم المعيش le monde vécu وكأنه متحكم في أفعاله وسلوكاته وتصرفاته وجسمه، لكن هذا الغير مخترق حسب هوسرل بالغير فهو لايتصرف من تلقاء ذاته بل استنادا إلى حضور الأنا، فإدموند هوسرل يرى أن هناك إمكانية لمعرفة الغير، بحيث ترتبط الذات بالغير من خلال المجال المشترك الذي يسمى العالم. و هذا العالم توجد فيه الذات كما يوجد فيه الغير، فإدراك الذات لهذا العالم هو إدراك لهذا الغير الذي يوجد فيه. و ما دام العالم يتشكل من هذه الذوات و يتأسس عليها، فإن إدراكي لها ليس إدراكا معزولا ناتجا عن نشاط فكري أو ذاتي تكون الذات في غنى عما يمكن أن يقدمه الغير من تصورات . فتصور العالم هو تركيب لمجموع التصورات، و تفاعل الذوات فيما بينها . كما لا يمكن أن نتحدث عن عزلة فكرية و عن عدم القدرة على معرفة الغير ما دمنا نساهم في إنتاج العالم و تشكيل معالمه، و يظهر الغير في العالم و كأن له القدرة على التحكم في تصرفاته و انفعالاته، لكن الغير مخترق بواسطة الأنا كما توجد الأنا مخترقة من خلال الغير، إننا ندرك نفس العالم لكن لا يمكن للأنا أن تكوّن معرفة مطابقة للمعرفة التي يكونها الغير حول العالم، فلكل من الأنا والغير تجربتهم الخاصة حول العالم، فالوردة التي يرى فيها شخص ما رمزا للحب قد لا يعيرها شخص آخر أي اهتمام، ولا يمكن القول باستحالة معرفة الغير مادام إدراكهما للعالم مختلفا بل إن التذاوت أي التفاعل بين الذوات هو السبيل لكي تدرك الأنا الغير في قصدية ما يروم إليه من خلال فعله.
ماكس شيلر: معرفة الغير ممكنة من خلال النظر إليه كبنية كلية لاتقبل التجزيئ
يرى ماكس شيلر أن معرفة الغير ممكنة باعتباره بنية كلية مترابطة، ويؤسس لأطروحته على أساس استنباطي، مؤكدا على أننا نشارك الغير في إضفاء المعنى والدلالة على أفعاله فيكفي أن نرى ابتسامته لنقول بأنه فرحا، أو احمرار وجهه لنقول أنه خجل، أو دموعه لنقول أنه حزين، وعلى هذا الأساس يوجه شيلر نقدا لاذعا للمنهج التجريبي الذي يرى بأن تعابير وسلوكات الشخص لا تعبر نهائيا على عالمه الداخلي وكأن الغير يعيش حياتين منفصلتين، عالم داخلي وعالم خارجي، لذلك يؤكد شيلر على أن المنهج التجريبي لا يمكن تطبيقه على الفعل الإنساني لأنه فعل غير قابل للتجزيء مادام يتداخل فيه ما هو نفسي وروحي مع ما هو مادي عضوي، ويقترح شيلر الإنطلاق من المنهج الفينمينولوجي الذي ينظر للفعل الإنساني في كليته وقصديته، وينتهي شيلر إلى أنه لا يمكن أن نطبق خطوات المنهج العلمي التجريبي على التعابير الإنسانية فإذا كان الموضوع الفزيائي أو الطبيعي قابل للتقسيم والتجزيئ  والموضعة والملاحظة المؤدية إلى المعرفة المطلقة القابلة لتعميم، فإن الفعل والتعبير  الإنساني غير قابل لذلك، فالإبتسامة مثلا أو الحزن أو الفرح لا يمكن تجزيئه وتقسيمه وموضعته أو فصله عن ما هو داخلي، إن تعابير الغير هي مرآة عاكسة لعالمه الداخلي لذلك فالتعاطف والمشاركة هي ما يمكننا من إدراك الغير ومعرفته وفي هذا الصدد يقول ماكس شيلر"إن ما ندركه، منذ الوهلة الأولى، ليس جسد الغير ولا نفسيته، بل ندرك الغير بوصفه كلا لا يقبل القسمة، إذ لا يمكن أن نقسمه إلى قسمين، أولهما يدرك داخليا(نفسيا)، وثانيهما يدرك خارجيا(جسديا)، إن المضمونين الداخلي والخارجي، يترابطان ترابطا وثيقا بخيط دائم ومستقل عن كل ملاحظة واستقراء".
موقف جان بول سارتر: معرفة الغير كأنا غير ممكنة، فإخضاعه لفعل المعرفة  يؤدي إلى موضعته وتجميد إمكانياته
يقدم الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر تصوره حول العلاقة بين الأنا و الآخر كما تتجلى في مختلف مظاهر الحياة المعيشة ( النظرة،الحب...) على أنها علاقة صراع تدور حول الموضعة، و تتجلى خاصية الصراع في أنني أحاول أن أدرك الآخر كموضوع أشيئه و أفقده بالتالي إمكاناته و حرياته. و حين أنظر إليه يشيئني و يفقدني حريتي .و يظهر الوصف الذي قام به سارتر لمختلف مظاهر الحياة المعيشة، أنني أعجز عن النظر إلى الآخر كذات و كموضوع في نفس الوقت. و بالتالي يظهر أن الوضعية التي أعترف فيها بحرية الآخر هي وضعية مستحيلة، على اعتبار أن وعي الآخر كوعي حر هو وعي يوجد خارج قدراتي المعرفية و يحمل تناقضا و استحالة تجعله بعيدا عن المعرفة.
 فادعائي ورغبتي في معرفة الآخر هي مجرد محاولات للسيطرة عليه وموضعته وتشييئه. فكل واحد منا يسعى من خلال نظرته إلى تجميد الآخر والحد من تلقائيته وعفويته لكن كل واحد منا ينفلت من الآخر بفعله واختياراته وتعاليه على تلك النظرة وهو ما يجعل معرفة الغير مستحيلة كذات، إن سقوط الأنا في العالم منذ اللحظة الأولى التي تقذف فيها إلى العالم يوازيها انبثاق للغير من خلال نظرته التي تموضع الأنا لكن الأنا لا يمكنه معرفة الغير لأن حريتها توجد في تعاليها على نظرة الغير، وكل ادعاء لهذه الإمكانية(أي إمكانية معرفته)هي ليست إلا محاولة لسيطرة عليه وتشييئه.
غاستون  بيرجي : معرفة الغير مستحيلة، فعالمه حصن موصد لا يمكن للأنا اختراقه أو تمثله بشكل يتطابق مع ما يفكر فيه الغير
يرى الفيلسوف الفرنسي غاستون  بيرجي  أن الذات تشكل عالما فريدا من نوعه، فهي تعيش في استقلال و انفصال عن الغير، إذ لا يمكن سبر أحدهما أغوار الآخر رغم حضورهما معا . و هذا الحضور لا يكون إلا للجسد أو للجسم . لكن، عقل الأنا و تفكيرها غائب عن هذا الحضور، فهو يتوارى وراء حجب لا يمكنها أن تنكشف أو تتجلى أمام الغير. فكل ما تمر به الذات لا يمكن للغير أن يشارك الأنا فيه بنفس الدرجة و المقدار، رغم أنه قادر على الإحساس و التعاطف معها، يعطينا بيرجي مثالين أو تجربتين يبدوا فيهما عالم الغير غريب تماما عن عالم الأنا، فتجربة الفرح أو الألم هي دليل قاطع عند بيرجي على عدم قدرة الغير على معرفة عالم الأنا، فمثلا حين أكون فرحا نتيجة خبر ما أو سماع شيء ما فرغم وجود الآخرين إلى جانبي فلا يمكنهم نهائيا أن يحسوا بوقع الفرح علي كما أحس به أنا رغم أنهم يشاركونني فرحتي إلا أن فرحي يظل خاصا بي ولا يمكن لمشاركتهم أو تعاطفهم أن يكون مطابقا لما أحس به، فمثلا العروس ليلة العرس قد يشاركها كل الأغيار فرحتها لكن لا أحد بإمكانه أن يحس بما تحس به هي داخليا، رغم أنهم يعبرون عن فرحهم لفرحها، كما أن تجربة الألم وخاصة الموت كأقصى تجربة وجودية قد يشاركنا الغير عن طريق تعاطفه فيها إلا أن هذا التعاطف يظل برانيا عني لأنني أنا المتألم الوحيد وأنا الوحيد القادر على الإحساس بذلك الألم الذي قد يحدثه وقع الموت من خلال فقدان قريب أو حبيب علي، أما الغير فلا يستطيع مهما حاول أن يصل إلا عالمي الداخلي ووقع الألم علي.

وجود الغير:مارتن هايدغر/جان بول ساتر/فردريك هيجل/رونيه ديكارت

                   
ذ.الزاهيد مصطفى
                                                  I.               المحور الأول : وجود الغير
üمقدمة خاصة  للمحور الخاص بوجود الغير:

لا يمكن للإنسان أن يحبس نفسه في قمقم، فإن قطب 'الأنا' لا يستطيع العيش إلا في علاقة "بقطب الغير"، حقا إن المرء يولد بمفرده ويموت بمفرده، ولكنه لا يحيا إلا مع الآخرين وبالآخرين وللآخرين، وإذا كان قد وقع في ظن البعض  أن الشعور الفردي إنما هو ذلك الوعي الخاص الذي نستشعر معه أننا موجودون  وحدنا دون الآخرين، فإن هيدغر يقرر أن الوجود دون الاخرين هو نفسه صورة من صور الوجود مع "الأخرين"
بمعنى أن الشعور الفردي لا ينطوي على انفصال مطلق عن عالم الغير الذي هو من مقومات الوجود الإنساني بصفة عامة، وكما أنه ليس ثمة ذات بدون العالم، فإنه ليس ثمة ذات بدون الغير، وسواء كان الغير الذي أتصارع معه وأتمرد عليه وأسخر منه أم كان هو الصديق الذي أتعاطف معه وأنجذب إليه فإنني في كلتا الحالتين لا أستطيع أن أعيش بدونه، ولا أملك سوى أن أحدد وجودي بإزائه، وسواء قلنا مع سارتر الجحيم هو الغير أم قلنا مع مالبرانش أنه ليس هناك من عقاب أقصى على المرء من أن يعيش في الجنة بمفرده،فإن من المؤكد أن وجود الغير قضية أساسية تتطلب منا معالجتها فلسفيا إستحضار الإشكالات التالية:هل وجود الغير ضروري لكي أحقق وعيي بذاتي؟ بعبارة أخرى هل وعيي بذاتي هو وعي مباشر ومستقل أم أن وعيي بذاتي لا بد أن يمر عن طريق الغير؟ وكيف يمكنني إدراك وجود هذا الغير؟  هل بوصفه شيء من الأشياء الموجودة في الطبيعة أم باعتباره أنا آخر غيري يستحق التقدير والاحترام؟وكيف يمكن أن يعترف بي من طرف هذا الغير؟ هل من خلال الصراع من أجل الاعتراف أم من خلال الإعتراف المتبادل؟.

تصور مارتن هيدغر انطلاقا من تحليلنا له في القسم
ينطلق هيدغر في مناقشته لإشكالية وجود الغير في كتابه "الكينونة والزمن" من تأكيده على أن الإنسان موجود في هذا العالم، هذا الوجود عند هيدغر ليس بالمعنى المكاني الفزيائي، بل بالمعنى الأونطولوجيإلى جانب موجودات بشرية أخرى، فالموجود هنا(الأنا) تجد نفسها في عالم الآخرين الذي يفرض عليها أن تتعامل معه وتعيش معه، فهيدغر، لا يقصي الغير ولا يدعو للعزلة والفردانية كما ذهبت إلى ذلك الفلسفات الذاتية بل إن هيدغر يؤكد على أن العزلة عن الآخرين غير ممكنة ويلخص ذلك في قوله: "إن الوجود بدون الآخرين هو نفسه صورة من صور الوجود مع الآخرين" لكن ما ينتقده هيدغر هو إنسان العصر الحديث الذي فُرض عليه بواسطة مختلف الوسائط الإيديولوجية أن يعيش في حالة جماعية زائفة تفرض عليه التنازل عن وجوده الخاص والأصيل فيصبح في هذه الحالة وجود الإنسان هو عبارة عن انغماس وذوبان في عالم "الجمهور" الزائف.
فهيدغر يفرق بين وجود حقيقي وأصيل، ووجود زائف غير مشروع، فلكي تحافظ الدزاين/الذات/الأنا/ على وجودها الأصيل الذي يضمن لها حريتها ويجعلها حاملة لمسؤوليتها التامة عن أفعالها واختياراتها، أما الوجود الزائف فإنه يفرض على الذات النزول إلى مستوى الموضوع أو الأشياء، فتميل إلى الانغماس في عالم الجمهور الذي هو عالم استهلاكي وهو ما يمَكن الآخرين من سلبنا ذواتنا وحريتنا ومسؤوليتنا، وهو ما يؤدي إلى فقدان الذات لأصالتها وشخصيتها وهويتها، فالعودة إلى الذات أي الوجود الأصيل حسب هيدغر هو الطريق لتحرر الأنا من سلطة الغير وقبضته، وهيدغر بدعوته هذه لايقصي الغير لكنه حذر من عالمه الزائف الذي تناقش فيه فقط القضايا المنحطة والتافهة(الأيقونات/النجوم/الماركات العالمية/الأحداث اليومية..).
ما يمكن أن نخلص إليه من تصور هيدغر هو أن هيدغر يؤكد على أن التباعد هو الخاصية المميزة للعلاقة بين الأنا والغير، فأخذ المسافة من عالم الغير ضروري لكي لا تسقط الأنا في قبضة الغير ولكي لايتم إفراغها من كينونتها، وقد حاجج على ذلك من خلال المثال الذي أعطاه بركوب الحافلات وقراءة الصحف والأخبار ومشاهدة التلفاز فإنها تؤدي في نهاية المطاف إلى تنميط الأنا وجعلها تفرغ من هويتها وتفكر بشكل منقاد وشبيه لما يفكر فيه كل الأغيار اللذين يعيشون وجودا زائفا ومبتذلا.

جدول  لتوضيح الفرق بين الوجود الأصيل والوجود الزائف عند مارتن هايدغر:
الوجود عند هيدغر ينقسم إلى:
الوجود الأصيل
الوجود الزائف
هو وجود تكون فيه الأنا حرة وواعية ومستقلة، ومريدة  ومسؤولة مسؤولية تامة عن وجودها وتفكر في العالم بمعزل عن أي سلطة خارجية أو إكراه أو توجيه سواء كان ماديا أو إيديولوجيا.
هو عالم الجمهور الذي خلقته الأجهزة الإيديولوجية لسلطة، وهو عالم مستغرق في اليومي ويكون فيه الأفراد منقادين وخاضعين لبعضهم البعض ومنمطين يفكرون في قضايا منحطة وشبيهين بالأشياء.

موقف جان بول سارتر:وجود الغير يتجلى كعائق من خلال نظرته أمام الأنا لكنه عائق ضروري لتحرر الأنا

في معالجته لإشكالية وجود الغير، يؤكد سارتر في كتابه "الوجود والعدم" أن سقوط الأنا في العالم إلى جانب الأشياء حيث تحتل الأنا المركز المستقل الذي تلتف حوله الأشياء، لكن انبثاق الغير الذي يوازي سقوط الأنا في العالم يجعل الأنا تحس أنها لم تعد وحيدة، فيظهر الغير باعتباره آخر يزحزح الأنا من مركزها الذي كانت تحتله مقارنة مع الأشياء الجامدة التي لاتستطيع أن تسلب أحدا حريته، وهو ما يجعل الأنا تفكر في وجود الغير الذي أصبح بإمكانه من خلال نظرته تجميد تلقائية وعفوية وحرية الأنا، وفي هذا الصدد يقول سارتر"فلولا أن الآخر يراني وينظر إلي لظل شيئا بين الأشياء، وأظل في عالمه كموضوع للنظر والتأمل،فموضوعيتي لا تأتي إلي من العالم، مادام العالم يستمد موضوعيته من وجودي، إذ أنه لايستطيع أن يكون موضوعا لنفسه"فالمسألة حسب سارتر هي صراع بين الأنا والغير وبتعبير أدق مبارزة،"فالغير هو الإمكانية الدائمة التي تحولني إلى موضوع مرئي، والغير هو الإمكانية الذاتية الذي يتحول بواسطتي إلى موضوع مرئي"، فالرجل "الذي يقرأ في كتابه مثلا دون أن يسمع شيئا أو يرى شيئا سوى الكتاب بين يديه يمكن أن أنظر إليه من مسافة بعيدة باعتباره"رجل قارئ"  كما أقول عن هذه الصخرة، على أنها صخرة باردة، فهاهنا يبدوا الغير حسب سارتر كوجود مكاني باعتباره شيء ولكن بمجرد ما أن يلتفت إلي هو الآخر حتى تزول عنه هذه الشيئية لأتحول أنا إليها، فالغير موضوع وذات عندما أكون ذاتا بالنسبة إليه إذ لا أستطيع أن أكون موضوعا بالنسبة إلى نفسي، كما لايستطيع الغير أن يكون موضوعا إلى نفسه"فكل واحد منا يحقق حريته ووعيه بذاته من خلال تعاليه على نظرة الآخر وهي نظرة يتعالى عليها كل "أنا" في اتجاه الغير من خلال الفعل والإختيار الذي يقوم به في سبيل حريته، وفي هذا الصدد يقول سارتر"فنظرة الآخر وسيط بيني وبين نفسي وأنا أرى نفسي لأن الآخر يراني وهو شعور أوضح ما يكون في حالة الخجل وهي حالة يتعرف فيها المرء على نفسه كموضوع يراه الأخر ويحكم عليه، أو بالأحرى كحرية تفلت منه".

مـــــوقف هيجل :وجود الغير ضروري لتحقق الأنا وعيها بذاتها من خلال صراعها ضد الغير من أجل نزع الإعتراف
في قراءته لهيجل يعيد جان هيبوليت بناء التصور الهيجيلي حول تطور الوعي وأقصى ما يمكن أن يتجلى فيه الوعي  كما ناقش ذلك هيغل في كتابيه "الإستطيقا" و"فينومينولوجيا الروح" أن الإنسان لا يكون ولا يوجد من أجل ذاته حسب هيجل إلا إذا تجاوز الوجود الطبيعي (الوجود كأشياء الطبيعية)، فالإنسان يمكنه أن يوجد من أجل ذاته في الوقت الذي ينفي فيه الوجود الطبيعي  كي يسمو إلى ما يكون موضوع رغبته، إن  تدخل الإنسان في الطبيعية من أجل تحويلها وإضفاء لمسته الخاصة حولها هو ما تستهدفه الرغبة، إن الرغبة هي وعي الذات بذاتها حسب هيجل ولن تكون الذات على وعي بذاتها إلا إذا كانت لديها رغبات تسعى لتحقيقها في إطار الصراع من أجل نزع الاعتراف الذي تحركه الرغبة عند هيغل رغبة العبد في التحرر،  فحينما تسعى الذات إلى تجاوز وجودها الطبيعي /الحسي نحو  تحقيق رغباتها فهي في نفس الوقت تسعى لتحقيق وعيها بذاتها، لكن هذا الوعي بالذات يصطدم برغبات ذات أخرى وهو ما يؤدي إلى صراع بين الرغبات،تجد الأنا فيه نفسها مجبرة على الدخول في صراع قاتل ومميت من أجل نزع الاعتراف ضد نقيض الأنا وهو الغير ويمثل لنا ذلك هيجل من خلال جديلة العبد والسيد فكل منهما يرغب في تحقيق وعيه بذاته من خلال رغباته وهو ما يجعلهما في صراع مستمر لكي ينفي أحدهما الآخر وينتصر عليه لكي ينتزع منه اعترافه بذاته كشخص حر وواع ومستقل، هذا الصراع هو الذي يمنح الذات و الآخر يقينا بوجودهما. فيرتقي بالفرد من مجرد أنا مباشر إلى وعي بذات معترف بها.هذا الإعتراف لا يمنح بشكل سلمي وإنما ينتزع عبر صراع يِؤدي إلى استسلام أحد الطرفين، وبذلك تنشأ العلاقة الإنسانية الأولى: " علاقة السيد والعبد في التاريخ ".

موقف ديكارت ، الأنا مكتفية بذاتها والغير لا وجود له إنه مجرد جسم

إن الفلسفة الديكارتية تتأسس على الأنا المفكرة القادرة على تحقيق وعيها بذاتها اعتمادا على الذات نفسها و دونما حاجة لمساعدة الغير، هذا ما تعلمنا إياه تجربة الشك التي يضع فيها الأنا نفسه في مقابل الغير من خلال الشك في هذا الأخير، و من خلال العزلة عنه. و من هنا يكون وجوده غير ضروري بل افتراضيا أو محتملا ما دام متوقفا على حكم العقل و استدلاله.ورغم أن ديكارت لم يتطرق للغير لفظا في متنه لكن الأنا أفكر عند ديكارت في تجربة التأمل المستقل لا تنظر للآخرين كأنوات بل مجرد أجسام متحركة حينما يطل ديكارت من شرفة النافدة عليهم ليراهم يتحركون.